سيظل للكلمة أثرها الفعال في تغيير أفكار الناس ومشاعرهم وواقعهم ، وذلك إذا استوفت شروطاً معينة . وليس أدل على رفعة مكانة الكلمة في حياة البشر من أن الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام -كانوا يجيدون استخدامها في التعبير عن الحقائق الراسخة والربط بينها وبين واقع البشر. فهذا نوح -عليه السلام - يجادل قومه باستفاضة ، حتى ضج قومه من ذلك حين قالوا : { قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا } وحجج النبيين ومضامين خطابهم للخلق في الأصول واحدة ، مما يجعل جذور الكلمة الطيبة ضاربة في أعماق الزمن من لدن نوح عليه السلام إلى خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا يجعل حركة التاريخ كلها في سياقٍ عامٍ واحدٍ ،وهذا تأكيد على أهمية الكلمة الطيبة في إنقاذ البشرية من الضلالة . ففى تاريخنا الإسلامي أمثلة كثيرة جداً غيَّرت فيها الكلمة مسار شخص أو مدينة بل قارة.. والآية التي نحن بصددها زاخرة بالمعاني والصور التي تجعل الكلمة في أرقى حال جمالاً وكمالاً ونفعاً لقد شبه الباري الكلمة الطيبة بشجرة طيبة ،والتي تتصف بثلاث صفات أساسية : ثبات أصلها وعمق جذورها ، ثم ذهاب فروعها وأفنانها في السماء ، ثم نفعها الدائم للخلق باستمرار أكلها وثمارها . ولنفصل القول في تنزيل هذه الصفات على الكلمة الطيبة .
1 - ثبات الأصول : حين نعرف أن أصول دعوات الأنبياء -عليهم السلام- واحدة ، تركزت في التوحيد الخالص وعبادة الله تعالى وإقامة الحق والعدل في الأرض وإعمارها ؛ ندرك أي جذور ضاربة تمتلكها الكلمة الطيبة على اتساع أمداء الزمان والمكان، وأي رصيد ضخم من الفطرة يؤازرها في عملية البلاغ المبين فالكلمة الطيبة إرث موروث متصل بالأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- .. واليوم نتيجة لعلميات الضغط الفكري التي تمارسها التيارات المادية ، نجد أن بعض الكتاب والمفكرين الذين لهم صبغة إسلامية بدأوا يتزحزحون عن كثير من مواقعهم ، مصطحبين معهم أفكاراً أو أحكاماً عليها الإجماع ,وإذا استمر هذا النهج على ما هو عليه اليوم فسنجد أنفسنا أمام دين يقبل كل إضافة كما يقبل أي حذف ، ويصبح قابلاً للتشكيل على ما يشتهي أهل الأهواء والشهوات 2 - مرونة الأساليب وتنوعها : على مقدار ما تكون جذور الكلمة الطيبة وأصولها راسخة تكون أساليبها مرنة نامية منوعة ، وهذا في حد ذاته أحد مقتضيات ثبات الأصول ؛ فأحوال البشر وأفهامهم مختلفة ، ولذلك تعدد الأنبياءعليهم الصلاة والسلام وتنوعت شرائعهم( ومَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ), وقد أخذ الأسلوب القرآني من العرب كل مأخذٍ ، وتحداهم, وأقام عليهم الحجج الدامغة التي تناسب أوضاعهم الفكرية آنذاك وكان في هذا تحدٍ عظيم لكل من يريد مخاطبة الناس والتأثير فيهم إذ أن الخلفية الثقافية للمخاطبين صارت أكثر تعقيداً بسبب ثراء الساحة الثقافية وتنوعها ، مما أسفر عن وجود حواجز كثيرة على الكلمة أن تتجاوزها قبل الاستقرار في الذهن أو العاطفة, كما صار التزام الدقة في أداء الكلمة شرطا أساسيا للحيلولة دون أن يساء فهمها ،و صار اختيار العبارات المناسبة للحقيقة التي يُراد إيصالها للمخاطب أمراً ضرورياً جداً .
فإذا كانت الحقيقة التي نريد توصيلها أدبية أو حضارية فإن العبارة القادرة على اختراق الحجب هي التي تحمل في تركيبها قابلية تعدد المعاني عند مختلف الدارسين ، بحيث يكون لكل منهم فيها خطة من التفسير و التأويل ، بشرط أن يكون ذلك ضمن طاقة التركيب اللغوي الذي بين يديه . أما الحقيقة العلمية الكونية أو الفقهية : فينبغي أن تصاغ بعبارة غاية في الدقة لا تدع مجالاً إلا لمعنى واحد ، فإذا لم يراع المتحدث أو الكاتب هذا أحدثت عباراته للناس فتناً ، وأوقعته في الريبة مع سلامة قصده .3 - دوام نفعها : إن الشجرة الطيبة التي ضربها الله تعالى مثلاً للكلمة الطيبة دائمة الثمار ، وديمومة عطائها نابعة من تناسق الصفتين السابقتين : ثبات الجذور ، وبسوق فروعها في جو السماء ، والكلمة التي لا جذور لها لا تستطيع أن تصنع شيئاً,والتي لا تنسجم مع لغة العصر لا تستطيع ملامسة أعماق الإنسان الذي تقرع سمعه ،وقد ملكتنا هذه الآيات الكريمة المقياس الذي نتعرف به على الكلمة الطيبة ، وهو( تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ )نحن إذا أردنا من هذا المنظور أن نقيس أداء خطب الجمعة في عالمنا الإسلامي وآثارها في ترقية فهم الناس للإسلام والتزامهم به وجدنا أن أطناناً من الورق تكتب أسبوعياً دون أن تؤتي الثمار التي تتناسب مع حجم ذلك الجهد المبذول ، ونعني به (خطأ الأسلوب ).
إن مهمة المسلم أن يعيش عصره ويكون مؤثراً لا متأثراً ،.ففي العالم اليوم ما يسمى بثورة المعلومات مما يفرض على المثقف المسلم أن يرسم لنفسه خطة تثقيفية خاصة تناسب رغباته واختصاصه العلمي , والمشكلة الكبرى أن أمة (اقرأ) ما عادت تقرأ مما خلق نوعاً من الخلخلة الثقافية في ساحتنا الفكرية، لذا على المرء القراءة الواسعة في شتى أنواع المطبوعات و أن يقرأ لكل المدارس حتى لا يقع فريسة للانغلاق الفكري أو ضحية للأفكار الفقيرة التي تظهر في أساليب شتى ولابد لمن يريد أن يسير في طريق الانفتاح الثقافي من ثقافة شرعية أساسية يتمكن بها من تحديد الثوابت ، حتى لا ينجرف مع نتاج المدارس والتيارات التي يقرأ لها . كما لابد له من محاولة امتلاك منهج في التفكير يستند إلى وعي صحيح بأحداث الماضي ، ووعي جيد لظروف الحاضر إن الذي يملك شذرات من المعلومات كمن يملك قطعاً من الذهب ، أما الذي يملك منهجاً ذا نماذج خاصة ، فإنه يمتلك مفتاح منجم من الذهب ، فإذا حصّل كلاهما فإن الانفتاح في الاطلاع يكون خيراً كله ، فلنقرأ لأولئك الذين يقدرون مسؤولية الكلمة والذين لا يدفعون بكتابهم إلى المطبعة إلا بعد الاعتقاد بأنه يشكل إضافة جديدة للفكر الإنساني . والحمد لله رب العالمين منقول عن أ.د عبد الكريم بكار